السبت، 1 أكتوبر 2016

قصة موسى وفرعون 


قصة موسى وفرعون 


 قصةٍ جديدةٍ للرجولة كما أراد الله سبحانه أن يعلمها عباده، ويُربيهم عليها في قرآنه العزيز الذي اعتمد المنهج الأول في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم الخاصة للرجال، إنها المعركة الأبدية بين الإيمان والكفر، بين الجزع واليقين، بين الصدق في نصرة الحق والتخاذل المهين، موعدنا مع قصةٍ تُبيح بسر هذا الإعجاز الذي يصنعه الإيمان في القلوب، حتى إنها لا تلوي على أحد، ولا تخشى في سبيل رفعة إيمانها أي شيء!

تبدأ القصة، وهنا يبدأ المشهد الأول بين موسى ممثلًا للحق، وفرعون ممثلًا للباطل؛ يقول ربنا تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف: 104 - 126].

يقول صاحب الظلال: (إنه مشهد اللقاء الأول بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، مشهد اللقاء الأول بين الدعوة إلى رب العالمين، وبين الطاغوت الذي يدعي ويزاول الربوبية من دون رب العالمين!

يقول موسى عليه السلام: ﴿ يا فرعون ﴾، لم يقل له: يا مولاي كما يقول الذين لا يعرفون مَن هو المولى الحق، ولكن ناداه بلقبه في أدبٍ واعتزاز، ناداه ليقرر له حقيقة أمره، كما يقرر له أضخم حقائق الوجود: ﴿ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.

لقد جاء موسى - عليه السلام - بهذه الحقيقة التي جاء بها كل رسول قبله، حقيقة ربوبية الله الواحد للعالمين جميعًا، ألوهية واحدة وعبودية شاملة.

ولقد واجه موسى - عليه السلام - فرعون وملأه بهذه الحقيقة الواحدة التي واجه بها كل نبي - قبله أو بعده - عقائد الجاهلية الفاسدة، واجهه بها وهو يعلم أنها تعني الثورة على فرعون وملئه، ودولته ونظام حكمه.

إن ربوبية الله للعالمين تعني أول ما تعني إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره، وتَنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له - من دون الله - بإخضاعهم لشرعه هو وأمره، واجهه بهذه الحقيقة الهائلة بوصفه رسولًا من رب العالمين، ملزمًا ومأخوذًا بقول الحق على ربه الذي أرسله.

﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾: تدلكم على صدق قولي: إني رسول من رب العالمين.
وباسم تلك الحقيقة الكبيرة، حقيقة الربوبية الشاملة للعالمين، طلب موسى من فرعون أن يطلق معه بني إسرائيل، وإذ كان فرعون إنما يعبِّد بني إسرائيل لهواه، فقد أعلن له موسى أن رب العالمين هو الله، وإعلان هذه الحقيقة ينهي شرعية ما يزاوله فرعون من تعبيد بني إسرائيل!

إن إعلان ربوبية الله للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان، تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله، تحريره من شرع البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر في أمثالهم البشر.

ولم تغب على فرعون وملئه دلالة هذا الإعلان، إعلان ربوبية الله للعالمين، لم يغب عنهم أن هذا الإعلان يحمل في طياته هدم ملك فرعون، وقلب نظام حكمه، وإنكار شرعيته، وكشف عدوانه وطغيانه، ولكن كان أمام فرعون وملئه فرصة أن يظهروا موسى بمظهر الكاذب الذي يزعم أنه رسول من رب العالمين بلا بيِّنة ولا دليل:
﴿
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾: ذلك أنه إذا اتَّضح أن هذا الداعية إلى ربوبية رب العالمين كاذب في دعواه سقطت دعوته، وهان أمره، ولم يعد لهذه الدعوة الخطيرة من خطر، وصاحبها دعيّ لا بيِّنة عنده ولا دليل، ولكن موسى يجيب:
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾: إنها المفاجأة، إن العصا تنقلب ثعبانًا لا شك في ثعبانيته: ﴿ مُبين ﴾.
ثم إن يده السمراء - وقد كان موسى عليه السلام «آدم»؛ أي: مائلًا إلى السمرة - يخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء من غير سوء، بيضاء ليست عن مرض، ولكنها المعجزة، فإذا أعادها إلى جيبه عادت سمراء! هذه هي البينة والآية على الدعوى التي جاء بها موسى، إني رسول من رب العالمين.
 
ولكن هل يستسلم فرعون وملؤه لهذه الدعوى الخطيرة؟ هل يستسلمون لربوبية رب العالمين؟ وعلام إذًا يقوم عرش فرعون وتاجه وملكه وحكمه؟ وعلام يقوم الملأ من قومه ومراكزهم التي هي من عطاء فرعون ورسْمه وحكمه؟
علام يقوم هذا كله إن كان الله هو «رب العالمين»؟
إنه إن كان الله هو «رب العالمين»، فلا حكم إلا لشريعة الله، ولا طاعة إلا لأمر الله، فأين يذهب شرع فرعون وأمره إذًا، وهو لا يقوم على شريعة الله، ولا يرتكن إلى أمره؟ كلا! إن الطاغوت لا يستسلم هكذا من قريب، ولا يسلم ببطلان حكمه وعدم شرعية سلطانه بمثل هذه السهولة!
 
وفرعون وملؤه لا يُخطؤون، فهم مدلول هذه الحقيقة الهائلة التي يعلنها موسى، بل إنهم ليعلنونها صريحة، ولكن مع تحويل الأنظار عن دلالتها الخطيرة باتهام موسى بأنه ساحر عليم:
﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾.
إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة، إنها الخروج من الأرض، إنها ذهاب السلطان، إنها إبطال شرعية الحكم، أو محاولة قلب نظام الحكم بالتعبير العصري الحديث! إن الأرض لله، والعباد لله، فإذا ردت الحاكمية في أرضٍ لله، فقد خرج منها الطغاة، الحاكمون بغير شرع الله! أو خرج منها الأرباب المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم.
 
وخرج منها الملأ الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى، فيعبدون الناس لهذه الأرباب! هكذا أدرك فرعون وملؤه خطورة هذه الدعوة، وكذلك يدركها الطواغيت في كل مرة، لقد قال الرجل العربي - بفطرته وسليقته - حين سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، «هذا أمر تكرهه الملوك!»، وقال له رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته: «إذًا تحاربك العرب والعجم»، لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته، كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله؛ عربًا كانوا أم عجمًا! كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جديتها في حس هؤلاء العرب؛ لأنهم كانوا يفهمون مدلول لغتهم جيدًا، فما كان أحد منهم يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد، ولا في أرض واحدة، شهادة أن لا إله إلا الله مع الحكم بغير شرع الله! فيكون هناك آلهة مع الله! ما كان أحد منهم يفهم شهادة أن لا إله إلا الله كما يفهمها اليوم من يدعون أنفسهم «مسلمين»، ذلك الفهم الباهت التافه الهزيل!.
 
﴿ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾: وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد، وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر، ففي الوثنيات كلها تقريبًا يقترن الدين بالسحر، ويزاول السحر كهنة الديانات وسدنة الآلهة! وقد استقر رأي الملأ من قوم فرعون على أن يرجئ فرعون موسى إلى موعد، وأن يرسل في أنحاء البلاد من يجمع له كبار السحرة؛ ذلك ليواجهوا «سحر موسى» - بزعمهم - بسحر مثله، ويطوي السياق القرآني إجراء فرعون وملئه في جمع السحرة من المدائن، ويسدل الستار على المشهد الأول؛ ليرفعه على المشهد التالي، وذلك من بدائع العرض القرآني للقصص، كأنه واقع منظور، لا حكاية تروى!
﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾: إنهم محترفون، يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة! والأجر هو هدف الاحتراف في هذا وذاك! وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين! وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله، وإفراده – سبحانه - بالحاكمية، وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله، احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين، وكافأهم على الاحتراف، وتبادل وإياهم الصفقة، هم يقرون سلطانه باسم الدين! وهو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين! ولقد أكد لهم فرعون أنهم مأجورون على حرفتهم، ووعدهم مع الأجر القربى منه؛ زيادة في الإغراء، وتشجيعًا على بذل غاية الجهد، وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والبراعة والتضليل، إنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة القاهرة التي لا يقف لها الساحرون ولا المتجبرون! ولقد اطمأن السحرة على الأجر، واشرأبت أعناقهم إلى القربى من فرعون، واستعدوا للحلبة، ثم ها هم أولاء يتوجهون إلى موسى - عليه السلام - بالتحدي، ثم يكون من أمرهم ما قسم الله لهم من الخير الذي لم يكونوا يحتسبون، ومن الأجر الذي لم يكونوا يتوقعون:
﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا ﴾.
 
ويبدو التحدي واضحًا في تخييرهم لموسى، وتبدو كذلك ثقتهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة، وفي الجانب الآخر تتجلى ثقة موسى - عليه السلام - واستهانته بالتحدي: {قالَ أَلْقُوا}، فهذه الكلمة الواحدة تبدو فيها قلة المبالاة، وتلقي ظل الثقة الكامنة وراءها في نفس موسى على طريقة القرآن الكريم في إلقاء الظلال بالكلمة المفردة في كثير من الأحايين.
 
ولكن السياق يفاجئنا بما فوجئ به موسى - عليه السلام - وبينما نحن في ظلال الاستهانة وعدم المبالاة، إذا بنا أمام مظهر السحر البارع الذي يرهب ويخيف:
﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾.
 
وحسبنا أن يقرر القرآن أنه سحر عظيم؛ لندرك أي سحر كان، وحسبنا أن نعلم أنهم سحروا «أعين الناس»، وأثاروا الرهبة في قلوبهم، «واسترهبوهم» لنتصور أي سحر كان، ولفظ «استرهب» ذاته لفظ مصور.
 
فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس، وقسروهم عليه قسرًا، ثم حسبنا أن نعلم من النص القرآني الآخر في سورة طه أن موسى عليه السلام قد أوجس في نفسه خيفة، لنتصور حقيقة ما كان! ولكن مفاجأة أخرى تطالع فرعون وملأه، وتطالع السحرة الكهنة، وتطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شهِدت ذلك السحر العظيم:
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 117 - 119].

إنه الباطل ينتفش، ويسحر العيون، ويسترهب القلوب، ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب، وأنه جارف، وأنه مُحيق! وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق؛ حتى ينفثئ كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كشعلة الهشيم! وإذا الحق راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور، والتعبير القرآني هنا يلقي هذه الظلال، وهو يصور الحق واقعًا ذا ثقل: «فوقع الحق»، وثبت، واستقر، وذهب ما عداه فلم يعد له وجود، «وبطل ما كانوا يعملون»، وغلب الباطل والمبطلون، وذلوا، وصغروا، وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون، «فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ»، ولكن المفاجأة لم تختم بعد، والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة أخرى، مفاجأة كبرى: ﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾.

إنها صولة الحق في الضمائر، ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق للقلوب المهيأة، لتلقي الحق والنور واليقين، إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنِّهم، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه، وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر، أم من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر، والعالم في فنِّه هو أكثر الناس استعدادًا للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له؛ لأنه أقرب إدراكًا لهذه الحقيقة، ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور، ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين، ولكن الطواغيت المتجبرين لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر، ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان، ولا كيف تلمسها حرارة اليقين، فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب - وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء - ومن ثم فوجئ فرعون بهذا الإيمان المفاجئ الذي لم يدرك دبيبه في القلوب، ولم يتابع خطاه في النفوس، ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر، ثم هزته المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحته مفاجأة استسلام السحرة - وهم من كهنة المعابد - لرب العالمين، رب موسى وهارون، بعد أن كانوا مجموعين لإبطال دعوة موسى وهارون إلى رب العالمين! والعرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت، وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرُّج في سبيل المحافظة على الطاغوت، هكذا ﴿ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾، كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق - وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها - أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم - وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئًا - أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم - وهم أنفسهم لا يمسكون مداخلها، أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين، وهو ينبت من الأعماق، أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار، أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين! ولكنه الطاغوت جاهل غبي مطموس، وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور!

ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز: ﴿ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها ﴾.
وفي نص آخر: ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾، والمسألة واضحة المعالم، إنها دعوة موسى إلى رب العالمين، هي التي تزعج وتخيف، وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون، ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين، فأولى أن يفزعوا الآن وقد أُلقي السحرة ساجدين، قالوا: آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون! والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون، وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين! وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع: إنه التعذيب والتشويه والتنكيل، وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان، وعدة الباطل في وجه الحق الصريح.

ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان، تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم، إنها لا تقف لتسأل: ماذا ستأخذ؟ وماذا ستدع؟ ماذا ستقبض؟ وماذا ستدفع؟ ماذا ستخسر؟ وماذا ستكسب؟ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؟ لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك، فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق.

﴿ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾، إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع، كما أنه لا يخضع أو يخنع، الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربه، فيطمئن إلى جواره: ﴿ قالُوا: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ﴾.

والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت، وأنها معركة العقيدة في الصميم، لا يداهن ولا يناور، ولا يرجو الصفح والعفو من عدوٍّ لن يقبل منه إلا ترك العقيدة؛ لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة: ﴿ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ﴾، والذي يعرف أين يتجه في المعركة، وإلى من يتجه، لا يطلب من خصمه السلامة والعافية، إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام: ﴿ رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ﴾.

ويقف الطغيان عاجزًا أمام الإيمان، وأمام الوعي، وأمام الاطمئنان، يقف الطغيان عاجزًا أمام القلوب التي خُيِّل إليه أنه يملك الولاية عليها، كما يملك الولاية على الرقاب! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام، فإذا هي مستعصية عليه؛ لأنها من أمر الله، لا يملك أمرها إلا الله، وماذا يملك الطغيان إذا رغبت القلوب في جوار الله؟ وماذا يَملِك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان! إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية، هذا الذي كان بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة السابقين.

إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية، بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار «الإنسان» على «الشيطان»! إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية، بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية، فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة، والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب، وتَعجِز عن استذلال القلوب والأرواح، ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب، فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب!

إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية! فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز، وتُمَنَّى بالقرب من السلطان، هي ذاتها التي تستعلي على فرعون وتستهين بالتهديد والوعيد، وتُقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب، وما تغير في حياتها شيء، ولا تغير من حولها شيء - في عالم المادة - إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى، وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت، وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد، وقعت اللمسة التي تحوِّل الإبرة، فيلتقط القلب إيقاعات القدرة، ويتسمع الضمير أصداء الهداية، وتتلقى البصيرة إشراقات النور، وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي، ولكنها هي تغير الواقع المادي، وترفع «الإنسان» في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال! ويذهب التهديد، ويتلاشى الوعيد، ويمضي الإيمان في طريقه؛ لا يتلفت، ولا يتردد، ولا يحيد! ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد.

إن روعة الموقف تبلغ ذروتها وتنتهي إلى غايتها، وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض مع الهدف النفسي للقصة، على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني، في تناسق لا يبلغه إلا القرآن، ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة - بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم، وجعل لهم فرقانًا في تصورهم - أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة، وأنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين، فهو الله تعالى وحده الذي أهَّل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله، إنهم يقدمون على الموت مستهينين؛ ليَقينِهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين، وأن عدوهم على دين غير دينهم؛ لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره، ينكر ربوبية رب العالمين، فهو إذًا من الكافرين، وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين - على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل - إلا بمثل هذا اليقين بشِقيه: أنهم هم المؤمنون، وأن أعداءهم هم الكافرون، وأنهم إنما يحاربونهم على الدين، ولا ينقمون منهم إلا الدين) [1].


[1] في ظلال القرآن؛ لسيد قطب، م3، بدءاً من ص1345.

المصدر: شبكة الألوكة الثقافية







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الكتب الدراسية للمرحلتين الإعدادية والثانوية الأزهرية

  Toggle navigation 24 سبتمبر, 2017 بوابة الأزهر تنشر الكتب الدراسية للمرحلتين الإعدادية والثانوية الأزهرية    طباعة في إطار خطة بو...