السبت، 1 أكتوبر 2016


الشورى والديمقراطية


يشاع أن الديمقراطية هي أرقى ما توصَّل إليه العقل البشريُّ في مجال الحكم وأمور السياسة، ونحن نؤمِن أن الشورى هي أصلُ الحكم وأساس التدبير، وما أمر الديمقراطية في ظل تعدُّد "الأيديولوجيات المتناقضة" إلا مفرِّقٌ للجمع، ومشتِّت للشمل؛ لأنها تخلق فكرةً للحكم لا تلتقي والهُويةَ التاريخية التي تَحَاكَمَ بها المسلمون، بل إن الديمقراطية في ظل هذا النوع من التعددية تمثِّل أكبرَ خطر على ربوع الإسلام وأقطاره؛ لأنها تُحدِثُ شرخًا في أصل الهوية، وليس في الاختيارات السياسية أو الفكرية، فالخلاف بين المسلمين كان قديمًا، ولا زال، وسيظل قائمًا؛ ولكنه الخلاف الذي هو ظاهرةٌ دالة على دينامية المجتمعات، والذي مهما اشتد أثره (الخلاف) بين المتخالِفين فإنه يظل متلفِّعًا بالهوية التاريخية للأقطار الإسلامية؛ ولذلك لو وُجِدَت الديمقراطية في ظل الاختلاف الإسلامي - من السياسي إلى الفكري - فستكون أقرب إلى الشورى منها إلى نظام الأغلبية؛ لأن منبع المختلفين (المرجعية) واحد، والأسس واحدة، وإنما الاختلافُ في فهوم العقول وتأويلات الأفهام، ومهما علا أمر الخلاف بين المسلمين أنفسِهم، فإن الإسلام يظل الحاويَ لكل المختلفين، الذين كلما دبروا خلافاتهم بعقلانية ارتفع ذاك الخلاف أو قلَّ.

وعلى النقيض من كلِّ هذا إذا كانت تلك الأيديولوجيات توجهاتٍ متناقضةً؛ مثل: الأسود والأبيض، بين من لا يستسيغ - لحظة - أن يكون الإسلام هو الموجِّهَ لحركة الأفكار، بل ويؤمن في قراراته أن "الحَداثة" و"العَوْلَمة" قد نسخت ذلك الموجِّهَ - بنظره - ويرى من يتبنَّى هذا أن ذلكم الموجه ما هو إلا فترة تاريخية بزَّتْه "الحداثة" وتجاوزته؛ إذ أصبح في موقع المقابل؛ أي: مقابل الحداثة، ومقابل هذه يُلمَز "بالتخلف" و"الرجعية" و"الظلامية" و"فكر القرون الغابرة" ... فالإشكال العويص يَكْمُنُ في منطلقات هذه الأيديولوجية القائمة على مبدأ الصراع والنزاع، وعلى أصل الشِّقاق بدلَ الوِفاق؛ لأنها في مقام الضدِّ للأصل الذي انطلقت منه التوجُّهات المقابلة (الإسلامية)، فهما (التوجُّهان المتناقضان) نهرانِ يجريان؛ لكن أحدهما يجعل من الهوية التاريخية رافدَه، والثاني: يجعل دحر نفس الهوية موردَه، الأول: ينطلق من التاريخ والحضارة، والثاني: ينطلق من هدم نفس التاريخ والحضارة؛ لأنهما تشكَّلتا من ذلك الأصل الرافد؛ الذي هو تاريخ المسلمين وحضارتهم، والإشكال الأخطر هو أن فكرة الهيمنة المطلقة هي الركيزةُ الأكثر ضخامة التي تستندُ إليها الأيديولوجية الوافدة على المسلمين، مما يجعلها - في بلاد الإسلام - تهدِّد المجتمعَ في هويته التاريخية.

نماذج: الشورى والديمقراطية:
وهنا أسوق نموذجينِ للشورى ننظر من خلالهما ما الأصوب: أهي الشورى أم الديمقراطية؟ ليس للحكم الكلي عليهما؛ بل لتقريب الفوارق بينهما.
النموذج الأول للشورى من سيرة الصدِّيق (رضي الله عنه): لما أصرَّ على قتال مانعي الزكاة، فقد عارَضَه جلُّ الصحابة، ولكن موقف الصدِّيق كان موقفًا ثابتًا، وقال مقولته المعروفة: "والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدُّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتُهم عليه"، حتى أقنع الصحابة بموقفه وتابَعوه فيه.

فلو احتكمنا إلى الديمقراطية (الأغلبية) في هذه النازلة، لكان الصحابة تقاعسوا عن رأي الصدِّيق، ولكان الأمرُ على غير ما جرى عليه من بعد، ولكن لما احتكموا إلى الشورى أقنَعَ الصدِّيقُ الصحابةَ بصواب رأيه، وقوة موقفه، حتى نزلوا على رأيه.

أما النموذج الثاني - وهو افتراضي -: فلو افترضنا أننا في سفينة في عرض البحر، ونفَد منا الماءُ كلُّه، واكتشفنا أن ماء البحر الذي نحن فيه ماء حلو، والسبيل الوحيد لشربه هو إحداث خرق في أسفل السفينة، فلو اعتمدنا فلسفة الديمقراطية، لصوَّت الجميع على ثقب قعر السفينة والشرب؛ لتلافي العطش، والهلاك ظمَأً، لكننا لو اخترنا نظام الشورى، فسيُقنع قائد السفينة أن هذا الخرق سيهلكُنا جميعًا، وأن الموت عطشًا أفضلُ من الموت غرقًا، وأن احتمالية الوصول إلى أرض أو جزيرة ممكنة، وأن هناك احتمالَ أن نحضر الماءَ بطريقة غير خرق السفينة ... فكان أن أمر الشورى أنفعُ للجميع وأفيد.

فالشورى - بنظري - تخالف الديمقراطية في شقٍّ، وتجتمع معها في شق آخر؛ فتخالفها لما تقوم الديمقراطية على مبدأ إنصاف المتحاكمين إليها، فترجح مَن مالت إليهم الغلبة، وإن كانوا على الظلم والخطأ، فعلى هذا الأساس ترجِّح الديمقراطية رأيَ أصحاب السفينة من العطشى، لا لشيء إلا لأنهم كثرة، تنصفُهم ولو كان في إنصافهم هلاكُهم، هنا تخالفها الشورى؛ فترى أن الإنصاف من الحقوق الواجبة، ولكن هذا الحق إذا كان يقودنا للهلاك المحتَّم، فالأفضل أن تميل كفَّة الرأي الأصوب؛ فيكون ذلك هو عينَ الإنصاف.

وقد تتقاطع الديمقراطية مع الشورى في كونهما معًا يصبوان إلى تحقيق نفس الهدف، وهو خلق مناخ عادل ومنصف يتحاكم إليه الناس، وربما لو التحمَتِ الشورى بالديمقراطية في ظل الاختلاف الإسلامي - لا تحت تناقض الأيديولوجيات - لنتج للمسلمين نظامُ حكم فريد، يكون جمع بين ما يشاع أنه أفضل نظامِ حكمٍ عرَفه البشر؛ وهي الديمقراطية، وبين أفضل ركيزة حَكَمَ بها النظام الإسلامي؛ وهي الشورى، فهل يتم الجمع بينهما يومًا؟ وكيف تتأتَّى سبل هذا الجمع؟ وهل ذلك ممكن أصلًا في ظل وجود المانع، الذي هو تناقض الأيديولوجيات؟ وهل يتصور ذلك بين من يرى في المدافعة أصل الاختلاف، وبين من يرى في الصراع والهيمنة أصلَ النزاع؟

مصطفى محمد الطنجيشبكة الألوكة الثقافية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الكتب الدراسية للمرحلتين الإعدادية والثانوية الأزهرية

  Toggle navigation 24 سبتمبر, 2017 بوابة الأزهر تنشر الكتب الدراسية للمرحلتين الإعدادية والثانوية الأزهرية    طباعة في إطار خطة بو...