مفهوم التسامح في
الإسلام
إذا كان التسامح في
المفهوم الغربي يصب في التعامل مع دوافع الكراهية والاختلاف التي تورث العزلة بين
أفراد المجتمع، فإنها في المفهوم الإسلامي تتجاوز ذلك بكثير في كونها منظومة
أخلاقية وقيمية كاملة بمفردات أعمق من مصطلح التسامح مثل: "المداراة –
الرفق –السماحة – الإحسان - اليسر والتيسير"[1]، وهي تؤسس لمفهوم التسامح
بشكل أكثر عمقا وأكثر عقلانية.
فالإسلام
يعترف بالحقوق الشخصية لكل فرد ويحرم انتهاكها، مما يترتب عليه كثيرا من التمايز
والاختلاف بين البشر، يكون أساسا للمدارة والسماحة وليس القطيعة.
وتعتبر
المنظومة الأخلاقية في الإسلام والقائمة على قيم الإيثار والعفو والإحسان
والمداراة، والقول الحسن هي أفضل تطبيق لمشروع التسامح إن تم تجسيدها بمعناها
الحقيقي على المستوى الفردي والاجتماعي.
غير
أن التسامح لا يعني بأي حال من الأحوال التنازل عن المعتقد أو الخضوع لمبدأ
المساومة والتنازل، وإنما يعني القبول بالآخر والتعامل معه على أسس العدالة
والمساواة.
التعايش في الإسلام
إنّ التعايش في الإسلام ينطلق من قاعدة عقائدية، وهو ذو جذور
إيمانية، ولذلك فإن مفهوم التعايش من منظور الإسلام، ليس هو من جملة المفاهيم
الوضعية الحديثة التي صيغت منها قواعد القانون الدولي. إنّ المسلم يعتقد أنّ الهدي
الإلهي جاء عبر سلسلة طويلة من الرسالات والنبوات آخر حلقاتها اليهوديّةُ،
فالمسيحية، فالإسلام، فمن الطبيعي إذن أن تكون هذه الأديان الثلاثة أقرب إلى بعضها
بعضاً منها إلى سائر الأديان، ويسمى القرآن المسيحيين واليهود (أهل الكتاب)، لأنّ
الله سبحانه وتعالى أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى – عليهما السلام –
قبل أن يتلقى محمّد (ص)، الرسالة في اكتمالها مصدِّقةً لما بين يديها، ومصوِّبةً
ومصحِّحةً ومفصِّلةً أمور الشريعة والقانون بجانب العبادات والأخلاق، فنزل القرآن
الكريم وهو الوحيد الباقي على أصله الذي نزل به في لغته الأصلية، كلمة وحرفاً بحرف[2].
ومن أبرز مظاهر التعايش الذي ساد الحضارة الإسلامية عبر العصور، أنّ
الإسلام يعتبر اليهود والنصارى أهل ديانةٍ سماوية، حتى وإن لم يكن هذا الاعتبار
متبادلاً. وعلى الرغم من أن عدم الإيمان بنبوة محمد (ص)، هو عندنا أمرٌ عظيمٌ وشأن
خطير، بل هو أمرٌ فارقٌ، فإنّ الإسلام قد استوعب هذا الخلاف، لا بالتهوين من أمره،
أو المهادنة العقيدية له، ولكن بما رسمه في باب المعاملات من تعاليم تسمح
بالتواصل والتراحم رغم خلاف المعتقد.
والتسامح في المنظور الإسلامي هو ثمرة التصور الإسلامي للإنسان الذي
يقوم على أساس معيارين اثنين، أوّلهما تحديد غاية الوجود الإنساني، التي
يتخذ الإنسان الأسباب لتحقيقها، ومن ثمّ الالتزام بالأسباب التي تتواءم مع هذه
الغاية ولا تصادمها، وثانيهما هو مدُّ الوعي بالوجود الإنساني إلى ما وراء
الحياة الدنيا القصيرة الفانية، إلى الحياة الخالدة الباقية.
لقد خلق الله الإنسان لأهداف
أخرى غير التي خلق الحيوان من أجلها، ولم يكن خلقه مجرد إضافة حيوان جديد إلى
قائمة الحيوان، إنما كان إيجاد جنس آخر من الخلق، خلقه الله بقدرته، ليعبد الله
على وعي، ويعمر الأرض بمقتضى المنهج الرباني، ومن أجل هذه الغاية وهب له ما وهب من
المزايا، وأنزل الكتب لهدايته على أيدي الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم،
وكان من أهداف إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط.
ومن ضروب القسط أن يسود التعايش بين
الأُمم والشعوب، بالمعنى الراقي للتعايش الذي يقوم على أساس العدل في المعاملة،
والمساواة في العلاقة. وبهذا المعنى فهم المسلمون القسط في قوله تعالى: (لَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد/ 25].
وقد طبق المسلمون القسط على المستوى اللائق بالإنسان، سواء في معاملة
من لا يؤمن بالإسلام وبمبادئه، أو في نظافة المجتمع من الفاحشة، أو في الخدمات
الإنسانية التي تقدم للناس، أو في التعاون على البر والتقوى. ويشهد التاريخ أن
معاملة المسلمين لغير المسلمين في البلاد المفتوحة، كانت مثالاً رائعاً من التسامح
لا مثيل له في التاريخ، ويتضح مدى نبله بالمقارنة مع وضع الأقليات الإسلامية التي
تقع تحت سيطرة اليهود والنصارى والمشركين عامة.
ولعلّ من أكبر الأدلّة وأقوى الحجج
على قيام الحضارة الإسلامية عبر العصور على أساسٍ متينٍ من التسامح في أسطع
معانيه، هو تعايش المسلمين مع أهل الديانات والملل والعقائد في البلدان التي
فتحوها خلال هذه القرون المتطاولة. ولو ذهبنا نستقرئ شواهد التاريخ، لما استطعنا
أن نحصر في بحث محدود المجال، الأمثلة الحيِّةَ على التعايش الإسلامي العديم
المثال مع أهل الأديان جميعاً، السماوية منها، وغير السماوية، في حين لا نجد أي
مظهر من مظاهر التسامح والتعايش في أدنى مستوياته، لدى غير المسلمين[3].
التسامح في التعامل مع الآخرين من أهل الديانات الأخرى:
لقد تَعرَّض الإسلامُ
والمسلمون في السنوات الأخيرة لحملةٍ ظالمةٍ من الافتراءات والتهم التي تصف
الإسلام بالتعصب والإرهاب، ورفض الآخرين، وعدم قبول الرأي الآخر.
لكنَّ الوقائعَ والأحداث
المروية في السيرة النبوية تلفظ هذه التهم كلها، وتُثبت عكسها.
فإن النَّاظر في
الفتوحات الإسلامية التي قادها رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوقن
أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أحرص الناس على الرِّفق والسماحة في تنفيذ العهودِ
والمصالحات، مما جعل المعاهدين والمصالحين من أهل الديانات الأخرى يتعجبون من هذه
المعاملة، ويميلون إلى الدخول في الإسلام، بسبب ما يجدونه من لين الجانب، وحسن
المعاملة، ولما يجدونه أيضًا من الصدق، والوفاء بالعهد، وعدم الغدر.
أمثلة
من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف مع غير المسلمين
حفل الإسلام بالدعوة إلى
التسامح منذ أن بزغ فجره، لكن الدعوات ليست كلَّ شيء، فكثيرًا ما سمعنا دعواتٍ لم
تتحقق؛ لأن التطبيق العملي شيء، والبيان النظري شيء آخر، أو لأن الدعاة مخادعون
يبتغون التمويه والتضليل لأغراض يُخفونها[4].
أما الإسلام، فقد قام
على التسامح قولاً وعملاً، وهذه بعض الصور من التسامح العملي للإسلام.
سماحة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية
اشترطت
قريش على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صُلح الحديبية شروطًا قاسية، منها:
أن من جاء من محمد إلى
قريش لا ترده إلى محمد، ومن جاء إلى محمد بغير إذنِ وليِّه رده محمد.
وقبِل النبي - صلى الله
عليه وسلم - شرطهم الجائر لحكمة رآها، وتبرَّم بعضُ الصحابة بالشرط، وما كادوا
ينتهون من توقيع المعاهدة حتى جاء أول امتحان للوفاء؛ إذ وصل مسلم من مكة اسمه:
"أبو جندل بن سهيل" يرسف في الحديد، فارًّا من أذى قومه، وألح على الرسول
- صلى الله عليه وسلم - في أن يضمَّه إليه، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
سلَّمه لقريش، وفاءً بعهده؛ فقال أبو جندل: إنهم سيعذِّبونني، فقال له - صلى الله
عليه وسلم -: ((اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرَجًا
ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد
الله، وإنا لا نغدر بهم)).
ثم وفد على النبي - صلى
الله عليه وسلم - "أبو بصير عتبة بن أسيد" فردَّه، وقال له مثل ما قال
لأبي جندل [5].
وإن سماحة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - وسماحة الإسلام لتتجلى حتى في الموقف المهتاج الذي تطمئن فيه
النفوسُ إلى الانتقام؛ فقد كانت الأمم تعامل أَسْراها معاملةَ العدو البغيض،
فتقتلهم، أو تبيعهم، أو تسترقهم وتسخِّرهم في أشق الأعمال.
سماحة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أسرى بدر وفتح مكة
أما الرسول- صلى الله
عليه وسلم - فقد عامَل الأَسرى معاملة حسنة، وهذا هو مع أَسرى "غزوة
بدر"، وقد وزع الأسارى السبعين على أصحابه، وأمرهم أن يُحسنوا إليهم، فكانوا
يفضلونهم على أنفسهم في طعامهم، ثم استشار أصحابه في شأنهم، فأشير عليه بقتلهم،
وأشير عليه بفدائهم، فوافق على الفداء، وجعل فداء الذين يكتبون أن يعلِّمَ كلُّ
واحد منهم عشَرةً من صبيان المدينة الكتابةَ [6].
وأشير عليه أن يمثل بـ:
"سهيل بن عمرو" - أحد المحرضين على محاربة الإسلام والمسلمين - بأن ينزع
ثنيتيه السفليتين، فلا يستطيع الخَطابة، فرفض النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال:
((لا أمثِّل به؛ فيمثل الله بي وإن كنت نبيًّا)) [7]، وكذلك أطلق أَسرى بني
المصطلق.
• ولما فتح مكة قال
لقريش: ((ماذا تظنون أني فاعل بكم؟))، قالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم،
فقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريبَ عليكم اليوم، يغفر الله لي ولكم)) [8].
ومنع المسلمين في غزوة
خيبر - بلد اليهود الذين نكثوا عهدهم مع المسلمين، وحرَّضوا العرب على غزوهم،
وانضموا إليهم - من أن يدخلوا بيتًا من بيوت اليهود إلا بإذنه، ومن أن يضربوا
نساءَ اليهود، أو يعتدوا على ثمراتهم.
وكان - صلى الله عليه
وسلم - يحضُرُ ولائمَ أهل الكتاب، ويَغْشَى مجالسهم، ويواسيهم في مصائبهم،
ويعاملهم بكل أنواع المعاملات التي يتبادلها المجتمعون في جماعة يحكمها قانون
واحد، وتشغل مكانًا مشتركًا؛ فقد كان يقترض منهم نقودًا، ويرهنهم متاعًا، ولم يكن
ذلك عجزًا من أصحابه عن إقراضه، فإن بعضهم كان ثَريًّا، وكلهم يتلهف على أن يقرض
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كان يفعل ذلك تعليمًا للأمة، وتثبيتًا
عمليًّا لِما يدعو إليه من سلام ووئام، وتدليلاً على أن الإسلام لا يقطع عَلاقات
المسلمين مع مواطنيهم من غير دينهم [9].
[1] محمد محفوظ
[2] كتاب الحوار من أجل
التعايش
[3] المرجع السابق
[4] سماحة الإسلام ؛ للدكتور
أحمد محمد الحوفي ص65
[5] السيرة النبوية؛ لابن
هشام، ج 3، ص (236، 237)
[6] السيرة النبوية؛ لابن
هشام، ج 2، ص (431، 455)
[7]
البداية والنهاية؛ لابن كثير، ج 2، ص (296، 297) بتصرف.
4 البداية والنهاية؛ لابن
كثير، ج 4، ص (300، 301) بتصرف
[9]
سماحة الإسلام؛ للدكتور أحمد محمد الحوفي، ص (66).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق