الأحد، 18 ديسمبر 2016

وحدة الشعب المصري عبر العصور

 وحدة الشعب المصري عبر العصور
ليس من قبيل المبالغة القول بأن الوحدة الوطنية المصرية كانت أساس توحيد مصر قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، حين أقام المصريون- رغم تعدد معتقداتهم - أول دولة مركزية وأمة واحدة موحدة فى التاريخ الإنساني على يد الملك (مينا) عام 3200 ق.م. وأن قبول واحترام الآخر- المختلف دينياً - كان ركيزة الوحدة بين الصعيد والدلتا وهو المعروف تاريخياً باسم " وحدة القطرين" أو "وحدة الأرضين".

ومع مطلع الرسالات السماوية كانت مصر طرفاً دائماً فى قصة التوحيد بفصولها الثلاثة - وحسب جمال حمدان - كانت لموسى قاعدة ومنطلقاً، ولعيسى ملجأ وملاذاً، بينما كانت مع النبي محمد هدية ونسباً.

ففى البداية جاءها إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام، وجاءها يوسف الصديق ومن بعده الأسباط اليهود الأثنى عشر، وولد على أرضها موسى عليه السلام نبى اليهودية، ثم جاءتها العائلة المقدسة وقت أن كان عمر السيد المسيح (عامان)، وقد مرت العائلة بثلاثة مواقع فى شمال سيناء وثمانية عشر موقعاً فى وادى النيل ودلتاه.

وفى عام 642م فتحت مصر أبوابها أمام الدين الإسلامى الحنيف الذي أمن الديار والأملاك ودور العبادة وكفل حرية العقيدة وحرمة الدين. وقد أجمع كل المؤرخين المصريين المسلمين الأوائل مثل ابن عبد الحكم والمقريزى والسخاوى وابن تعزى بروى، والكندي، وابن زولاق، والنويرى، وابن إياس، وجلال الدين السيوطى، وغيرهم الكثير، أجمعوا على وحدة النسيج المصري الواحد، وأرّخوا جميعاً لوحدة الأمة المصرية ووصفوا أقباط مصر بأنهم أكرم الأعاجم وأسمحهم يداً وأفضلهم عنصراً.

ويمضى بنا تاريخ الوحدة الوطنية المصرية وأرثها الحضاري العظيم حتى نصل إلى الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 م حيث فشل نابليون بونابرت فى إثارة النزعة الدينية لدى الأقباط وجعلهم طائفة مختلفة.

ومع تولى محمد على الحكم عام 1805م كان الميلاد الحقيقى لمبدأ "المواطنة" فى تاريخ مصر الحديث، حيث ألغيت الجزية المفروضة على أهل الذمة (أقباط ويهود) عام 1855م، وصدر قرار بتجنيدهم ودخولهم الجيش أسوة بالمسلمين دون تمييز دينى أو اجتماعى بين كافة المصريين.

وقام الخديوي إسماعيل بترشيح الأقباط فى مجلس شورى النواب، وكذلك قضاة فى المحاكم، واصبح الأقباط قوة حقيقية لها وزنها وقوامها فى الأمة المصرية.

ومن المعروف أن الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م اتبع ما يسمى سياسة "فرق تسُد"بين المسلمين والأقباط، وبدأت بالفعل إرهاصات تحويل الأقباط من (ملة دينية) إلى أقلية دينية وسياسية، وحاول الإنجليز إدخال "الطائفية" إلى مصر على غرار ما تم ممارسته فى الهند وكان الهدف أن يشعر الأقباط بأن الرابطة الدينية بينهم وبين الإنجليز وأوروبا هي أقوى من الرابطة الوطنية بينهم وبين إخوانهم المسلمين شركاء الوطن. وفشل الإنجليز فى تحقيق ذلك كما فشل الفرنسيون من قبل.

وكانت كتابات الطهطاوي التنويرية وتلاميذه هى بدايات مفهوم المواطنة فى مصر، وعليها سار مفكرو الثورة العرابية وعلى رأسهم عبد الله النديم - خطيب الثورة - حيث قال بوضوح "إن العيش الكريم فى ظل الاستقلال والانتشار الشامل للوطنية، هو أفضل من العيش المهين ولو كان فى ظل ”وحدة العقيدة" وأبرز النديم فى العديد من المقالات والخطب أن الروابط القومية أقوى من الاختلاف فى العقيدة الدينية، وهكذا تحدث النديم عن مصر "الدولة الأمة".

وجاءت ثورة 1919 م ضد الاحتلال الانجليزى لتمثل أزهى أحقاب الوحدة الوطنية والمواطنة والدولة المدنية ودولة الأمة المصرية، أمة عمادها أن الاختلاف فى العقيدة لا يتغير من وحدة العنصر والدم والوجدان المشترك، أمة أسلم فيها من أسلم، وبقى على مسيحيته من بقى، وقد تجلت الوحدة الوطنية فى أروع صورها عندما رفعت الثورة شعار "الدين لله والوطن للجميع" وشعار "يحيا الهلال مع الصليب" كذلك عندما وقف الأب سرجيوس خطيباً على منبر الأزهر الشريف ليقول "ليمت الأقباط وليحي المسلمون أحرارا" وعندما بادله رفيقه الشيخ القاياتى ووقف خطيباً فى الكنائس المصرية.

وتستمر تجليات ثورة 1919م فى كشف المعدن الذهبي لهذه الأمة ، فعندما قرر الإنجليز نفى سعد زغلول عام 1921 إلى جزيرة سيشل كان البيان الذي أصدره حزب الوفد- احتجاجاً على هذا النفي-، موقعاً من خمسة أفراد ( مسلم واحد وأربعة أقباط). وكان أعضاء الوفد المنفيين ستة أفراد ( أربعة مسلمين واثنان من الأقباط وهما "سينوت حنا" و"مكرم عبيد") كما كان أعضاء الوفد الذين حكم عليهم الإنجليز بالإعدام سبعة أفراد منهم 3 مسلمين و4 أقباط .

ولا ينسى التاريخ أن الأقباط أنفسهم هم الذين رفضوا مبدأ التمثيل النسبي فى دستور 1923 مثلما رفضوا من قبل حماية قيصر روسيا لهم وحماية اللورد كرومر، وأن قبطياً مصرياً وهو "عريان يوسف" تطوع لاغتيال رئيس الوزراء القبطي المرشح يوسف وهبة عندما خرج عن الجماعة الوطنية وإجماع الأمة المصرية، وقبل رئاسة الحكومة بوازع من الإنجليز بينما كان سعد زغلول ورفاقه فى المنفى، خاصة وأن الكنيسة المصرية كانت قد اجتمعت وطالبت يوسف وهبه بعدم قبول رئاسة الحكومة وعدم التفاوض مع لجنة ملنر المعادية للوفد ولشعب مصر.


وجاء العصر الحديث بمفكريه العظام رواد حركة الاستنارة والتنوير والداعية إلى حفظ السلم الاجتماعي وقوام الأمة المصرية الواحدة ذات النسيج الواحد من خلال قيام الدولة المدنية، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الطهطاوي والنديم وأحمد لطفي السيد وطه حسين وأحمد شوقي والعقاد وسلامة موسى ووليم سليمان قلادة ومكرم عبيد وأحمد عزت عبد الكريم وجمال حمدان وغيرهم الكثير .. فما أروع من قول المؤرخ والجغرافي الكبير جمال حمدان فى كتابه الفذ "شخصية مصر" بأنه جنس المصريين سابق لتميزهم الديني.

ويقول طارق البشرى فى كتاب "المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية" إن الاقتراح الحضاري بين المسلمين والأقباط فى مصر كان المكون الأصيل للمناخ التاريخي والحضاري والاجتماعي والثقافي والنفسي لتبلور المفهوم القومي للجماعة السياسية المصرية.

فالمسلمون المصريون ما هم إلا أقباطاً أسلم أجدادهم منذ قرون" وقوله "أن مصر تملك من وحدة الدم والأصل أقصى درجة يمكن أن تحوزها أو تحرزها دولة فى مثل مساحتها وعددها.. فمن الوحدة اللغوية إلى الوحدة الثقافية إلى الوحدة السيكولوجية ، جاء تطور مصر الوطنية .. ووحدة الأصل بين المسلمين والأقباط ليست عملياً إلا تحصيل حاصل ومجرد بديهية، من منطلق أن تكوين مصر العرقي سابق على تكوينها الديني فالأساس القاعدي لسكان مصر أسبق من المسيحيين بأكثر من 3200 سنة ومن المسلمين بأكثر من 4000 سنة على أقل تقدير، ويعد الأقباط من صميم الكيان الوطني المصري وكتلة رصينة رصيفه من جسم الأمة المصرية شديدة التماسك فيه والالتحام به، والواقع أن مصر لم تنقسم قط داخلياً ولا عرفت التقسيم ولا هي قابلة للقسمة تحت أية ظروف أو ضغوط.


ويرى الفيلسوف الكبير زكى نجيب محمود أن الأمة المصرية مرت بأربع حضارات وهى الآن تعيش الحضارة الخامسة أما الحضارات الأربع فتمثلها المتاحف الأربعة الفرعوني بالقاهرة والروماني اليوناني بالإسكندرية والمتحف القبطي بالقاهرة، ثم المتحف الإسلامي بالقاهرة .. أما الحضارة الخامسة فهي الحضارة المعاصرة القائمة على الدولة المدنية الحديثة.


كما كان الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف معبراً بنقاء خالص عن تلك الروح المصرية السامية فى قوله أن على المسلمين المصريين حماية الكنائس مثلما يحمون المساجد ويدافعون عنها.

وفي ختام هذا المبحث لا ننسى وصية خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم
حين يخبرنا صلى الله عليه وسلم عن وحدة شعب مصر وبأنهم "أى المصريين" في رباط إلى يوم القيامة وذلك في قوله: ((إذا فتح الله عليكم مصر بعدي، فاتخذوا فيها جنداً كثيفاً، فذلك الجند خير أجناد الأرض" قال أبو بكر: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: " إنهم في رباط إلى يوم القيامة"))

ففي هذا الحديث الشريف نجد أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خص مصر بخصائص عظيمة وهي كالآتي :
1- في قوله صلي الله عليه وسلم (إذا فتح الله عليكم مصر) إنما يعني أن الفتح الأعظم للإسلام سيكون بفتح مصر.
2- في قوله صلي الله عليه وسلم أيضا (فاتخذوا من أهلها جندا كثيفا فإن بها خير أجناد الأرض) إنما هو أمر سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم بأن يكون معظم جند الإسلام من أبناء مصر لأنهم خير أجناد الأرض وما ذلك إلا لحسن معتقدهم وإيمانهم ومن ثم تفانيهم في الدفاع والذود عن دينهم وأرضهم ومقدساتهم ليس ابتغاء أجر دنيوي ولكن ابتغاء مرضات الله ورسوله.
3- ولإدراك أعداء الإسلام وأعداء مصر هذه الخصوصية عن وضع مصر وأبنائها في الدفاع عن الإسلام لذلك كان من البديهي أن يكون هناك علي الدوام و الإستمرار من يريد الإيزاء والسوء لمصر.

 محمد احمد سليم
معلم بالأزهر الشريف












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الكتب الدراسية للمرحلتين الإعدادية والثانوية الأزهرية

  Toggle navigation 24 سبتمبر, 2017 بوابة الأزهر تنشر الكتب الدراسية للمرحلتين الإعدادية والثانوية الأزهرية    طباعة في إطار خطة بو...